من طرائف هذه الأيام واسمحوا لي أن أقتبس تعليق أحد القراء على خبر إلغاء الحرس الجامعي: "يا سلام كل الناس الأيام دي طلعوا من مواليد ميدان التحرير". فعلا من أبلغ التعليقات، الكل ينجز وينفذ ويحترم، فجأة كل رؤساء الجامعات يقدرون الحوار والأدهى أنهم يشجعون "الثورة". وأين كانوا قبل ذلك؟ بالطبع قبل الثورة كانوا مشغولين بتحجيم أستاذ الجامعة عبر ممارسة لعبة العصا والجزرة، اتبع التعليمات وستحصل على زيادة في المرتب، تملقنا وسنرقيك في المناصب، وافق على كل ما نقوله وسترى النعيم، نكل بطلاب كفاية والإخوان واليسار وسنكافئك....بالطبع لم تكن هذه التعليمات مكتوبة إطلاقا، لكنها كانت مفهومة تماما، وللأسف هناك العديد من الأساتذة الذين ارتضوا الدخول في هذه المنظومة الأمنية القمعية.
كأننا لم نكن على دراية أن أى منصب لا تتم الموافقة عليه إلا بموافقة أمن الدولة، دعك من المناصب الصغيرة التي تدخل في الانتهازيات الصغيرة لأصحاب الأطماع الرخيصة، أتحدث عن رئيس الجامعة ومعاونيه (الوكلاء)، وعميد الكلية ومعاونيه (الوكلاء). ممنوع استضافة أى شخص إلا بعد موافقة الأمن (بالطبع لا يوافق)، ممنوع مجلات الحائط، ممنوع السفر، ممنوع الكلام، ممنوع الندوات، ممنوع المظاهرات، ممنوع المعارض، ممنوع العمل السياسي،ممنوع من دخول الامتحان والقائمة تطول.
لكن الحق يقال أن للمسموح قائمة طويلة أيضا: مسموح أن تقيم الكلية بمعرفة رؤسائها المطيعين ندوات لمكافحة التدخين، وحوارات مفتوحة مع بعض الممثلين الذين يحصلون على شهرتهم من مسلسل رمضاني. مسموح الإعلان عن أنشطة سطحية لأسر جامعية (حصلت على موافقة الأمن) أشد سطحية، مسموح الإعلان عن أنشطة جمعية المستقبل التي كان على رأسها العهد البائد، مسموح تزوير انتخابات اتحاد الطلاب، مسموح تزوير انتخابات نادي أعضاء هيئة التدريس، مسموح عقد مؤتمرات وهمية لتمرير قانون الجودة الذي يدر أموالا طائلة على المنخرطين في نشره، وفي جامعة عين شمس كان مسموحا دخول البلطجية لتهذيب وتأديب الأساتذة والطلاب معا، مسموح تملق النظام والاستقرار بأى شكل كان، المهم أن تكون معهم لا عليهم. والحق أن الأعداد التي كانت معهم كانت كثيرة، لأنها "مش بتحب المشاكل" على حد قولهم. عجيب أمر هذه الأعداد التي انقلبت بين يوم وليلة وانضمت للثوار (معظمهم انتمى لحزب الكنبة)، عجيب أمرهم وقد أعلنوا أنهم كانوا مناضلين طوال الوقت،- غالبا من أجل الحصول على موافقات الرضا الأمني. لا أجد في هؤلاء المتلونون مشكلة لأنهم اعتادوا على ذلك أو بالأحرى اعتدنا منهم على ذلك. لا بأس أن يحاولوا إجراء بضعة عمليات تجميلية تعيد لهم بعض الكرامة التي فقدوها.
لكن أن يعلن رئيس جامعة القاهرة أن الحرس الجامعي تم إلغاؤه وأنه سيتم استبدالهم بأفراد أمن مدني، وأن يخرج ذلك التصريح بعد اجتماع مع وزير الداخلية، فهذا هو الغريب. أن يعلن رئيس الجامعة أنه سيلغي الحرس الجامعي احتراما لأحكام القضاء فهذا شيء محمود لكن المشكلة أن هذا الحكم القضائي صدر منذ عدة أشهر.لماذا يتم احترامه الآن فقط؟ ثم يخبرنا أن أمن الدولة سيقتصر وجوده على نقاط أمنية لتأمين الجامعة وعلى كتابة التقارير الأمنية. ما معنى ذلك؟ وما الذي كان يفعله أمن الدولة إذن من قبل، كان يكتب التقارير الأمنية التي يتم على أساسها ملاحقة الطلاب والأساتذة! فما هو التغيير الذي حدث؟ لم يحدث أى شيء سوى تصريحات شكلية في محاولة لإرضاء الثورة واستيعاب أي احتمالات تعبير عن غضب وارتداء ثوب النضال. الحرس الجامعي ليس مجرد ضباط يتم إخراجهم من الجامعة، بل هو منظومة كاملة تستمد قوة بطشها من مكتب أمن الدولة الكائن داخل الجامعة، وهو ما رسخ التفكير الأمني في عقل الجامعة حتى أصبحت كافة الانتهاكات تدخل في باب العادية من شدة اعتياد الجميع عليها. إلغاء الحرس الجامعي معناه إلغاء منظومة كاملة بكل قيمها وتقاريرها وأوراقها وعقليتها الأمنية. إلغاء الحرس الجامعي معناه أن نبني جامعة حرة فعليا وليس شكليا. مع جزيل الشكر لكل مواليد ميدان التحرير.