المقال نقلاً عن العدد الأسبوعى الصادر اليوم الثلاثاء 18/1/2011
من ذا الذى لا يطرب قلبه فرحا حين يرى إرادة الناس تعلو فوق إرادة البطش والقهر وقنابل النار والدخان؟
أهل تونس دخلوا بالعرب أجمعين إلى نهائى مونديال الحرية، وأعادوا للشعوب
المقهورة مهابتها فى صناعة القرار، بعد أن ظن حاكم غاشم أن رصاص عسكر
الطغيان أقوى من دروع الكرامة، وأن حصون الظلم أقوى من أن تقتلعها عاصفة
الحرية فى ضمائر المظلومين.
يبدو المشهد أعقد من أن يقطع صفوه شىء، حتى هذه الأفكار الهادئة التى تتأمل
فيما بعد هذا الانتصار التاريخى للشعب التونسى. فهؤلاء الذين أطاحوا طاغية
من صولجانه، ربما لم يتأملوا فى الخطوة التالية مباشرة، أو ربما لم يسألوا
أنفسهم: من ذا الذى يستحق أن يتوّج رأسه بأكاليل الحرية التى صنعها الشعب
التونسى بدماء أبنائه من الشهداء.
لا يفزعنى هنا أكثر من هذه اللحظة، فهؤلاء الأبرياء الذين افتدوا مستقبل
وطنهم الصغير بصدورهم العارية، وزرعوا فى أيام معدودات أرض تونس البكر
بنخيل الحرية، لم يتأملوا بعد فيمن يتربص فى الخفاء للانقضاض على هذا الزهو
الشعبى المهيب.
تحققت الثورة، وهرب الاستبداد إلى غير رجعة، لكن من ذا الذى يستعد للقفز
إلى مقاعد السلطة؟ ومن ذا الذى يمكنه ترجمة هذه الأحلام الجماهيرية التى
تحركت كصاعقة من السماء فى شارع الحبيب بورقيبة، إلى واقع حر، ووطن حر،
وشعب حر؟ ومن ذا الذى يمكنه أن يضمن الخبز والماء، ويستعيد الأمن إلى
الشوارع والبيوت وإلى تراب الوطن؟
لا نريد أن تعلو أبيات أمل دنقل إذ يقول (وخلف كل قيصر يموت قيصر جديد)، إذ
يبدو لى أن قياصرة متعددين يتحركون الآن من وراء حجاب فى المشهد التونسى.
قياصرة يرتدون ملابس العسكر، وقياصرة يرتدون عمائم الدين، وقياصرة يرفعون
الرايات الحمراء بأقنعة العدالة الاجتماعية.
يفزعنى أن يحل قيصر جديد فى قصر قرطاج. قياصرة العسكر كانوا رفاقا للطاغية،
وربما هم أول من كسر قلبه، وأطاح به من عليائه، فلو كان زين العابدين بن
على قد اطمأن إلى ولاء قادة جيشه، ما فرّ كالفأر فى الظلام.
ويفزعنى أن يحل قيصر آخر فى البيت الرئاسى من قياصرة الاستبداد الدينى.
فالتونسيون الأوفياء الذين ثاروا من أجل الحرية، قد ينجرفون نحو النقيض
الموضوعى للحالة الاجتماعية التى سلكها زين العابدين بن على، فتهوى البلاد-
دون أن تدرى- إلى أحضان الاستبداد السياسى المقنّع بأحجية الدين، فيحل
القيصر الجديد باسم الشريعة، وتنهار الحرية مجددا تحت ألوية السمع والطاعة
فى المنشط والمكره، وفى السراء والضراء.
ويفزعنى أيضا أن يحل قيصر أحمر، ينسب النصر الشعبى لكتائب الأحزاب
الشيوعية، ويختال على الناس بأفكار الثورة الجامحة، ويعتبر أن ما جرى لم
يكن سوى حصاد لحركة التيارات الاشتراكية فى مواجهة اليمين المتعفن،
والاستبداد النخبوى الأحمق لعصر زين العابدين بن على، وهنا تضيع تونس مجددا
تحت بطش آخر لقيصر جديد.
لو يأذن لى هؤلاء الثوار الأبرياء فى تونس أن أحذرهم من القياصرة الجدد
الذين يستعدون فى الخفاء للانقضاض على هذه الثورة الطاهرة، لتأذن لى عائلات
الشهداء وشباب شارع الحبيب بورقيبة، أن أقاطع من بعيد لحظات النشوة والزهو
بالثورة، لأؤكد أن الانتصار الكامل لم يتحقق بعد، وأن هؤلاء الذين قاوموا
القيصر المستبد عليهم أن يقاوموا أحلام القياصرة الجدد، فلا تسلّموا بلادكم
للعسكر، ولا تسلّموا حريتكم للعمائم، ولا تهدروا ما تحقق على أيديكم فى
الاقتصاد التونسى لهؤلاء الذين قد يسحبونكم جميعا إلى عصر الثورة البلشفية.
أكره أن أكون أول من يوقظ الثوار من كبريائهم الوطنى غير المسبوق، وأكره أن
أزعج فرحة الجماهير، لكن ما جرى فى تونس خلال الساعات التى تلت هروب زين
العابدين بن على، يكشف عن أن أصابع أخرى غير أصابع الجماهير الطاهرة، كانت
تلعب فى الخفاء، فحالات السرقة والانفلات الأمنى وانسحاب رجال الشرطة، لم
تكن أعمالا عفوية، والثمن الذى يمكن أن تدفعه تونس نتيجة غياب الأمن فى
الأيام التالية للانتصار ربما يكون أكثر فداحة من الثمن الذى دفعته تحت حكم
الطاغية الهارب.
أكره أن أكون أول من يضىء هذا الجانب المظلم من المشهد فى لحظات الاحتفال،
لكننى إذ احتفل بانتصار الشعب التونسى، لا يمكن إلا أن أخاف على هذا الشعب
نفسه من القياصرة. فالثورة الجديدة تحتاج إلى مشروع جديد، والحركة
الجماهيرية غير المسبوقة تحتاج إلى منظومة سياق فكرى يؤسس لعقد اجتماعى
مختلف، ومن دونه فقد يحل القياصرة الجدد محل القيصر البائد، أو قد يتقاسم
القياصرة الجدد ثمار الثورة وحدهم، رغم هذا النضال الشعبى التليد.
فلتحيا تونس.. وليذهب القياصرة القدامى والجدد إلى الجحيم.