انظر إلى هذه الوجوه التى تحركت من كل فج عميق،
لتتسلق بدمائها جبل الاستبداد لترفع رايات الحرية، من منهم سرق البنك، أو
حرق سيارة الشرطة، أو فتح أقفال الزنازين ليخرج المجرمون إلى الشوارع؟
انظر إلى هذه الوجوه التى غامرت بأرواحها لتفتح أقفال السجن الكبير، لتخرج
مصر نحو مستقبل جديد، من منهم طلب من رجال المرور الرحيل عن مواقعهم فى
الشوارع، أو اقتحم المتحف المصرى، أو اعتدى على المواطنين فى المنازل؟
هذا الجيل الجديد الذى قلب قواعد اللعبة السياسية فى مصر رأسا على عقب، لم
يقترف إثما يؤدى إلى انهيار مؤسسات الدولة على هذا النحو، ولم يبادر إلى أى
فعل يسوق البلاد إلى هذه الهاوية السحيقة، وهذه الفوضى العارمة.
هذا الجيل الجديد يريدون قتله اليوم، لا لشىء سوى خروجه إلى الشارع رافعا
شعارات الحرية. الآن يقولون لهؤلاء الثوار الصغار إنهم مسؤولون عن انعدام
الأمن، وسرقة الممتلكات العامة والخاصة. الآن يزرعون وهما أحمق بأن هؤلاء
المتظاهرين يتحمّلون الخسائر المالية والاقتصادية التى ستترتب على مصر بعد
انتهاء هذه الأيام العصيبة. هذا الجيل الجديد يتعرض لمؤامرة حقيقية بهذه
المزاعم الخبيثة، لأنهم وضعوه فجأة بين اختيارين، وأجبروه على أن يقرر
فورا، إما الأمن أو الحرية، وكأن الأمن بديل للحرية، أو كأن الحرية بديل
للأمن، أو كأن هذين الحسنيين لا يجتمعان معا.
هذه السُلطة الواهنة التى تم تقشيرها مثل ثمرة موز باهتة، هى التى صاغت
ملامح هذه المؤامرة، هذه السُلطة التى لم تستطع أبدا تقدير مستوى الإجحاف
الذى يشعر به هذا الجيل وآباؤهم من قبل، ولم تتمكن أيضا من تحديد سرعة
أعاصير الغضب التى انتشرت فى الصدور، وأغفلت بكبرياء مقيت هذه الرياح التى
هبت عليها من تونس الحرة.
هذه السُلطة هى التى خدعت الناس بالأرقام الزائفة لمعدلات النمو، دون أن
تنعكس هذه الأرقام على أقواتهم شيئا، وهذه السُلطة هى التى استعلت على
الناس بالباطل، حين قررت أن تؤمم مقاعد مجلس الشعب، وتضع كل ثمار الحراك
الديمقراطى تحت الحذاء الفاخر لأمين التنظيم السابق المهندس أحمد عز، وهذه
السُلطة هى التى قرأت مشهد الغضب بطريقة معكوسة منذ اليوم الأول فى الخامس
والعشرين من يناير حتى «جمعة الغضب» المهيبة، وهذه السُلطة هى التى استهانت
بالناس فأهانوها، واستكبرت على الشباب الغاضب فنزل غضبه كالصاعقة على
الجميع.
تقديرى الآن أن السُلطة لن تستطيع أن تمضى فى لعبتها هذه حتى النهاية، كما
أن تقديرى أن محاولات الدكتور البرادعى ونظرائه من السياسيين للقفز على
انتصار الشعب، لن تفلح هذه المرة كذلك، فالشعب الذى أراد الحرية وانتزعها
بإرادته لن يسلّمها على طبق من فضة لرجال الحكم، أو لمتسوّلى الانتصارات من
رجال المعارضة. الشارع يريد الآن منهجا لا أشخاصا، يريد دستورا لا حكاما،
يريد عملا برلمانيا صحيحا لا نوابا لتيارات سياسية، الشارع لا يمكن أن
ينخدع بسهولة بعد الخامس والعشرين من يناير، ولا يمكن أن يتراجع بسهولة بعد
انتصاره الساحق على مرتزقة الحكم والمعارضة.
أستأذنكم فى أن أطرح بعض التصورات الأساسية التى أرى ضرورة أن ينظر إليها
ثوار الحرية فى مصر، حتى لا تنخدع هذه الانتفاضة بالسلطة من جهة، كما لا
تنخدع بالسياسيين المرتزقة من جهة أخرى، وتحافظ على الأمن والحرية معا فى
سياق واحد:
أولاً: يجب ألا يكتفى الرئيس مبارك
بإجراء تعديلات شكلية فى بنية السلطة. صحيح أنه اختار شخصيات قيادية مقربة
إلى قلوب الناس، كالوزير عمر سليمان، والفريق أحمد شفيق، لكن الصحيح أيضا
أن تعديل البنية التشريعية السياسية هو المطلب الأول، وليس تعديل مواقع
الأشخاص ومكانتهم فحسب.
ثانياً: ينبغى على الناس ملاحظة أن
الجيش المصرى يسمو بنفسه فوق السياسة، ولا يمكن أن يلوث طهره ونزاهته فى
وحلها، كما أن الجيش لا يمكن أن يفرّط فى البناء الشرعى للدولة فى الوقت
نفسه، ومن هنا فإن هؤلاء الذين كانوا يرون انقلابا وصراعا فى السلطة، لا
أمل لهم بين الناس، ومن هنا لا يجوز أن نحمّل الجيش فوق طاقته، ونتصور أنه
خرج من ثكناته ليحقق مطالب شعبية فى تغيير سياسى، الجيش يحفظ أمن البلد
واستقراره، ويترك هذا الحوار للمدنيين والسياسيين ليصلوا إلى الخيار الذى
يحقق مصلحة مصر.
ثالثاً: فى ضوء هذا التصور حول
عقيدة القوات المسلحة، لا أتصور أن السيناريوهات المتوقعة تتضمن خروج
الرئيس مبارك بالسُلطة فورا على النحو الذى يتوقعه، أو يرجوه كثير من شباب
الانتفاضة، فالتصور الأساسى يعتمد على الحفاظ على كيان السُلطة ورأسها، ثم
ضمان انتقال تدريجى وسلمى نحو الديمقراطية التى يرجوها الناس، مع إقصاء
الوجوه الأكثر قبحا من رجال النظام والحزب الوطنى.
رابعاً: ينبغى على القوى الوطنية
المخلصة لمصر أن تبدأ حملة جديدة لاستعادة الثقة بين الشرفاء من رجال
الشرطة والناس، فما شهدته المظاهرات من جرائم، سيكون محل محاسبة قضائية
للمسؤولين عنه فى السلطة، أما بقية جهاز الشرطة فينبغى النظر إليه باعتباره
جزءا لا يتجزأ من الاستقرار الاجتماعى والأمنى والمؤسساتى فى مصر، ومن ثمّ
فإنه لا يجوز أن تبقى حالة الفزع المتبادل بين الشرطة والناس، وعلى اللجان
الشعبية التى حافظت على أمن الناس خلال فترة المؤامرة، أن تفتح صفحة جديدة
تعيد فيها هذا الجزء من أبناء شعبنا إلى عمله الطبيعى، حتى يتفرغ
المواطنون لرحلة عطائهم فى مواقعهم المهنية والوظيفية الأخرى، ويأمنوا على
عائلاتهم وأموالهم وممتلكاتهم وحياتهم من فئران الجريمة.
خامساً: يجب أن تنطلق المفاوضات بين
السُلطة والتيارات السياسية فى مصر على اختلاف تنوعها وأفكارها من أقصى
اليمين إلى أقصى اليسار، كما يجب أن تضمن السُلطة أن يكون شباب الانتفاضة
جزءا لا يتجزأ من هذه المفاوضات، احتراما لحق هذا الجيل، صانع ثورة الحرية،
وحماية لانتصارهم الخالد غير المسبوق فى تاريخ مصر، وحماية لهذا الجيل من
أن ينخدع بما هو أسوأ من بين مرتزقة السياسة فى مصر.
سادساً: أتصور أن تتم المفاوضات على
الحد الأقصى من المطالب، فمن جهة يجب أن ننظر بعين الاعتبار إلى موقف
القوات المسلحة فى الحفاظ على الشرعية، لحماية البلاد من أى انقسامات
مخيفة، تهدد استقرارها بشكل جامح، ومن جهة أخرى ينبغى تنفيذ الحد الأقصى من
مطالب الثوار عبر إعلان الرئيس مبارك أن الدورة الرئاسية الحالية ستكون
آخر دورات حكمه، مع إعلان خطة واضحة لتعديل بعض مواد الدستور المختلف
عليها، وأهمها المواد 76 و77 و88، مع إعلان حل مجلس الشعب، والدعوة إلى
انتخابات نيابية جديدة، وإطلاق حرية تأسيس الأحزاب، وإطلاق الصحف، وضمان
حرية التعبير.
سابعاً: الإسراع بتحقيق هذه
الخطوات، حتى لا تشكل الأوضاع الحالية عبئا إضافيا على الاقتصاد المصرى،
الأمر الذى قد يؤدى إلى نتائج كارثية فيما يتعلق بمصادر تأمين الغذاء
والوقود، إذ إن تعرّض السلع الأساسية لأى نوع من الهزات، نتيجة استمرار حظر
التجول، قد يؤدى - لا قدر الله - إلى تفجير مشكلات أخطر تهدد باتساع
الجراح الحالية، وتعقيد الموقف الاجتماعى والأمنى.
ثامناً: إعلان رجال الأعمال
المصريين مبادرة لإعادة البناء، وإزالة آثار موقعة «جمعة الغضب» من خلال
المساهمة فى إعادة بناء أقسام الشرطة المحترقة، وترميم الممتلكات العامة
التى تعرّضت للعدوان، تأكيدا للدور المنوط بهذه الفئة فى التصدى
لمسؤولياتها الاجتماعية فى اللحظات التاريخية التى تمر بها مصر.
تاسعاً: استثمار الأداء الشعبى
الرائع للمواطنين، والذى ظهر وقت الأزمة، فى وضع إطار قانونى نُثْرى من
خلاله حركة المشاركة الشعبية فى المحليات، وتطبيق اللامركزية على أسس من
استغلال طاقة الجماهير، ومحبتهم لبلادهم، لتحقيق السقف الأعلى من المشاركة،
والتضامن الاجتماعى. مصر وشعبها ومستقبلها وأمنها من وراء القصد.