[size=24]الحديث السابع
عن
عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان بن حرب أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من
قريش، وكانوا تجارا بالشأم، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد
فيها ابا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء
الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه
نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا، فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه
فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل عن هذا الرجل، فإن كذبني
فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه. ثم كان أول ما سألني
عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد
قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس
يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم
تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في
مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه
سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا
تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في
نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلت لو كان أحد قال
هذا القول قبله، لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك،
فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل
كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر
الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن
ضعفاؤهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون،
وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت
أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا،
وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن
كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه
منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه، لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. ثم
دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه
إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى
هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم
تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و: {يا أهل الكتاب
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ
بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}) قال أبو
سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات
وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني
الأصفر. فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
وكان
ابن الناطور، صاحب إيلياء وهرقل، أسقفا على نصارى الشأم، يحدث أن هرقل حين قدم
إيلياء، أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن
الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين
نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود،
فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مداين ملكك، فيقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على
أمرهم، أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما استخبره هرقل قال: أذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه، فحدثوه أنه
مختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.
ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم
حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق راي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم،
وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم
اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا
النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل
نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها
شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.
شرح
الحديث
ثم
في سنة ست، السنة التي بعد الأحزاب حصل الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين
قريش ويُسَمَّى صلح الحديبية على وضع الحرب عشر سنين؛ يعني
لانتظار ما يحصل، فلما حصل هذا الصلح بينهم وبين المسلمين في تلك المدة كتب
النبي صلى الله عليه وسلم إلى رؤساء المشركين، ورؤساء النصارى،
والْفُرْس يدعوهم إلى الإسلام .
أرسل كتابًا إلى كِسْرَى الذي
هو رئيس الفرس، ولكن كسرى مَزَّق الكتاب لما قرأه، دعا عليه
النبي صلى الله عليه وسلم أن يُمَزِّقَهُ الله كل مُمَزَّق،
استُجِيبَتْ دعوته، فلم يَبْقَ له ملك! وفتح المسلمون العراق ثم فتحوا خراسان ثم تابعوا كسرى الذي يُسَمَّى في ذلك الوقت يزدجرد إلى
أن استأصل ملكه، ولم يبق له ملك، مع أنه كان يملك نصف الدنيا: يملك العراق ويملك خراسان ويملك البحرين ونحوها،
ويملك الساحل كله الشرقي، ويملك الهند والسِّنْد وتلك البلاد فلم يَبْقَ له مُلْكٌ.
وأمَّا قيصر الذي
هو ملك الروم، فإنه أيضًا يملك نصف الأرض، يملك الشام بأكمله الذي هو فلسطين وسوريا ولبنان وتركيا ومصر وإفريقيا كلها والحبشة واليمن وتلك
البلاد، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم خطابًا، وكان يدين بالنصرانية،
والنصارى أقرب إلى الخير، وإلى الإسلام من الفرس، وقد كان بينهم قتال بين الفرس والروم، وفي
ذلك نزل قول الله تعالى:
الم غُلِبَتِ الرُّومُ
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يفرح المؤمنون بانتصار الروم على الْفُرْس، ويفرح المشركون بانتصار الفرس؛ وذلك
لأن الْفُرْسَ وثنيون، والروم كِتَابِيُّون، فهم أقرب إلى الإسلام، وأقرب
إلى الْكِتَاب.
والحاصل
أنه صلى الله عليه وسلم لما كتب هذا الكتاب إلى ملك الروم، فملك الروم
احترم الكتاب.. ما مزقه كما فعل ملك الفرس، بل احترمه، ثم أراد أن يسأل:
هل هناك أحد يعرف هذا الرجل الذي أرسل إلينا هذا الكتاب؟ والذي يدعي أنه
نبي، فصادف في تلك الأيام أبا سفيان ومعه قوم من قريش جاءوا إلى الشام إلى إيليا إيليا هي فلسطين وبيت
المقدس وما حوله كان اسمه قيصر الذي هو ملك الروم، فكان في إيليا ويسميها
اليهود أورشاليم فلما ذُكِرَ له أبو
سفيان ومن معه، وأنهم من قريش، ومن أهل مكة استحضرهم، واستدعاهم ليسألهم عن
أمر هذا النبي، أو هذا الذي يدعي أنه نبي.
في هذه القصة أنه لما
استحضرهم سألهم بواسطة الترجمان، كانت لغتهم
عِبْرِيَّةً، ولكن عنده ترجمان يعرف العربية،
فسأله.. سأل القوم: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يدعي أنه
نبي، كان أقربهم أبا سفيان يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم
في عبد مناف لأن أبا سفيان اسمه صخر بن حرب بن أبي العاص بن أمية
بن عبد شمس بن عبد مناف النبي صلى الله عليه وسلم محمد
بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف .
فلما قال أبو
سفيان أنا؛ كان أقربهم، أجلسه قريبًا منه، وأجلس رفقته خلفه، وقال لهم بواسطة
الترجمان: إني سائل هذا الرجل، إني سائل أبا سفيان عن محمد الذي يدعي أنه نبي، فإن كذبني
فَكَذِّبُوه.
عرف أن أبا
سفيان كان مخالفًا لدين النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يمكن أن
يكذب، ويجيب بجواب غير صحيح، أبو سفيان التزم الصدق، والحق ما شهدت به
الأعداء، وما حمله على الصدق إلا مخافة أن يكذبوه، أن يكذبه الذين هم رفقته،
وأن يقولوا كذب، والكذب عندهم عيب، ونقص، فالْتَزَمَ الصدق في هذه الأسئلة.
سأله قيصر عن
عشر مسائل كما سمعنا، وأجاب فيها بالصواب، وأخبره هرقل أخبره قيصر هرقل بأنها موافقةٌ لصفات الأنبياء.
المسألة الأولى: عن
نسبه؛ يعني هل نسبه، وأصوله، وأجداده من أهل الشرف، ومن أهل الشهرة؟ فقال: هو فينا ذو
نسب، اعترف بأنه من أهل الشرف، ومن أهل الرِّفْعَة في قومه، فإن جَدَّهُ عبد
المطلب كان أشرف قريش، وظهر فيهم، أما أبوه فإنه مات
صغيرًا في حياة جَدِّهِ، ولذلك كَفَلَهُ جَدُّهُ وعَمُّهُ، كذلك أيضًا
عَمُّهُ أبو طالب لما مات عبد المطلب شرف فيهم، وكان له رِفْعَةٌ ومكانة
في قريش وشهرة بينهم، كذلك لما مات أبو طالب شرف فيهم أيضًا العباس وكان
أيضًا ذا شهرة، وذا منزلة فيهم، كذلك أيضًا أجداده فإن هاشمًا جد أبيه كان أيضًا من أشراف قريش،
ويُسَمَّى أيضًا عمرًا ويقولون إنه سُمِّيَ هاشمًا لأنه
كان يَهْشِمُ الخبز والثريد لِلْحُجَّاج ونحوهم، فهو مشهور أيضًا، وذو شهرة، وذو
مكانة.
وهكذا أيضًا أجداده
الذين هم أجداد أبي سفيان عبد مناف ومن قبله فهو ذو شهرة ومكانة.
لما ذكر أنه ذو نسب
قال له هرقل: كذلك الأنبياء تُبْعَثُ في أنساب قومها؛ يعني اختار الله
تعالى من الأنبياء مَنْ يكون شريفًا في قومه، ومن يكون له مكانة ورفعة، ومنزلة
رفيعة. فهكذا بعث الله تعالى نوحًا في وسط قومه، وكذلك هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط ونحوهم،
كل منهم كان من أشراف قومه، ومن أشهرهم، فكذلك نبينا صلى الله عليه
وسلم اختاره الله تعالى، وهو من أفضل قومه، ومن أشهرهم، ومن أشرفهم، ومن
أصدقهم، كانوا يسمونه الأمين، فله مكانة، وله منزلة في قَوْمِهِ كسائر الأنبياء.
لا
شك أن هذه الميزة تُكْسِبُهُ فضلًا، وإن كان صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن
الشرف هو التقوى، وأن شرف الدنيا وشهرتها وسمعتها لا تُقَرِّبُ عند الله،
وإنما الذي ينفع الإنسان عَمَلُهُ؛ لقول الله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ وكذلك كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن الافتخار بالآباء الذين ماتوا، ويقول:
ألا ينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فَحْمٌ
من فَحْمِ جَهَنَّمَ
ويقول:
إن الفخر إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب وهكذا كانوا. إنما يفخر الإنسان بأفعاله، لا
بأفعال آبائه وأسلافه فإنها لا تنفعه.
وبكل حال، فإن هذا
مما يَخْتَارُه الله تعالى أنْ يُبْعَثَ النبي من أشراف قومه، حتى يكون له مكانة، ولا
يستطيعوا أن يجحدوه، وأن يجحدوا فضله، وأن يزدروه ويحتقروه، ولهذا بعثه الله
ولو كان فقيرًا كما في قول الله تعالى:
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى كان فقيرًا، وكان يتيمًا، ولكن مع ذلك اختاره الله تعالى وفَضَّلَهُ، وكذلك
ذكر الله قول المشركين:
لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا
الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يقترحون أن يكون الذي أُنْزِلَ عليه القرآن من أشرف الناس، لا يكون هذا اليتيم
وهذا الفقير، ولكنَّ الله تعالى يَمُنُّ على مَنْ يشاء من عباده، كما
أخبر بذلك لما أن المشركين
قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا يقولونه لرسلهم، فقال رسلهم:
إِنْ نَحْنُ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فهذا فضل الله، وهذه مِنَّتُهُ على العرب عندما بعث منهم هذا النبي.
السؤال
الثاني: سأله: هل كان من آبائه من ملك؟ يعني: هل أحد من آبائه وأجداده
قد كان مَلِكًا مُطَاعًا في العرب، مُلْكُهُ مشتهر ومنتشر، فاعترف أبو
سفيان وقال: لا، ليس له أب قد صار ملكا، يقول هرقل: لو كان من آبائه من ملك لَقُلْتُ:
رجل يطلب مُلْكَ أبيه.. وهذا حَقٌّ بمعنى أن الذي يسلب ملك أبيه أو
جَدِّهِ يحرص على أن يستعيد ويسترد ملك آبائه وأجداده كما هو الحاصل.
يعني: كانوا قديمًا
يأخذون الملك بالوراثة، يأخذونه بالوراثة، فمن
كان آباؤه ملوكًا كان يطالب بملك آبائه وأجداده، ولما لم يكن أحد من أجداد
النبي صلى الله عليه وسلم قد صار مَلِكًا للعرب في أول الأمر، لم
يكن هذا دافعًا له إلى أن يطلب الترأس، وإلى أن يطلب الملك، وإلى أن يطلب
الشرف، فليس هو مثل الملوك، ولا يريد ملك الملوك، بل إنه صلى الله عليه وسلم
كان يحب التواضع، ويحب تصغير نفسه، والتذلل لله تعالى.
ولهذا وصفه الله
تعالى بالعبودية، وصفه بها في أشرف الصفات، وفي أشرف الأماكن، فقال تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا وصفه بأنه عبد، ليس بملك، وكذلك في قوله:
سبحان الذي أسرى بعبده وقوله
الحمد لله الذي أنزل على عبده
الكتاب ولم يجعل له عوجا وكذلك
تبارك الذي نزل الفرقان
على عبده وغيرها من الآيات، وكان صلى الله عليه وسلم يحب التواضع ، في حديث عبد
الله بن الشِّخِّير
قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فقلنا له: أنت سيدنا، وابن سيدنا، فقال: السيد الله ! قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم! أنا محمد عبد الله ورسوله! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله افتخر بأنه عبد، وتَمَيَّزَ بأنه رسول، فلا
ينزل نفسه منزلة الملوك.
وكذلك لما جاء مرة
ليجلس أرادوا أن يُصْلِحُوا له فراشا، فجلس على الأرض، وقال: إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد،
وأجلس كما يجلس العبد من باب التواضع، وكذلك لما جاءه
أعرابي ليسلم، كأنه ارتعد ذلك الأعرابي، وظن أن النبي له مكانة، وله شهرة، فأجلسه
إلى جنبه وقال:
إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل الْقَدِيد يعني: اللحم الْمُيَبَّس، يعني: لستُ مَلِكًا..
لستُ من غير البشر، بل أنا بَشَرٌ، أنا بَشَرٌ مثلكم، فاختار الله تعالى له التواضع والعبودية،
ولم يَخْتَرْ له الملك.
في حديث الإسراء يقول:
إن الله خَيَّرَنِي
أن أكون مَلِكًا رسولًا، أو عَبْدًا رسولًا، يقول: فأشار إِلَيَّ جِبْرِيلُ بالتواضع،
فقلت: عبدًا رسولًا من باب التواضع؛ فإن مَنْ تواضع
لله رفعه ، ولو كان قد دانت له البلاد الإسلامية، ودانت له العرب لما
أسلموا، وصار هو الذي يأمر فيهم، ولكنه ما نصب نفسه كما ينصب الملوك أنفسهم،
فيتوسعون في الدنيا، بل كانت مساكنه مساكن لاطِئةً أي سقفها يناله إذا
مد يده؛ مساكن من الطين، وكذلك أيضًا كسوته ولباسه ونحو ذلك، ولما
خُيِّرَ عليه الصلاة والسلام بين أن تكون له بطحاء مكة ذهبًا اختار ألا تكون، واختار أن
يجوع يومًا، ويشبع يوما، يقول: فإذا جعت تضرعت
إليك، وذكرتكَ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك.. فهكذا اختار الله تعالى له التذلل
والعبودية، فلم يكن ملكا من الملوك، لا يطلب ملك آباء له، ولا يريد التملك
بنفسه، ولا ينزل نفسه منزلة الملوك.
ثم سأله السؤال
الثالث: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقال أبو سفيان لا.. ما ذكر أن أحدًا من قريش ولا
من العرب ادعى النبوة، ولا قال مثل هذه المقالة التي دعا إليها، وهي دعوة
الناس إلى التوحيد، ودعوة الناس إلى الإيمان بالله، وقال: إني نبي
يُوحَى إِلَيَّ، ما قال ذلك أحد قبله، فقال هرقل: لو كان قال ذلك أحد قبله، لقلتُ:
رَجُلٌ يَتَأَسَّى بقول قد قيل قبله، رجل يَتَّبِعُ
مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الذين قالوا: إنهم أنبياء، وادعوا النبوة، ولم يكن
أحد قال ذلك من العرب، ولا عُرِفَ أَحَدٌ ادعى ذلك، فلما انفرد بذلك عُرِفَ
بأنه لم يكن له دافع يدفعه إلى هذه المقالة، فعرف بذلك أنه صادق فيما
قاله.
ثم لما أنه عليه
الصلاة والسلام أظهره الله، ونصره ادعى بعض المتنبئين أنهم أنبياء، وأنهم ينزل عليهم
الوحي، وتمكن بعضهم، فكان ممن ادعى النبوة مسيلمة مسيلمة أظهر أنه نبي، وكان قد وفد مع وفد
بني حنيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلموا إلا هو، فإنه قال: إن جعل لي محمد الأمر
من بعده بايعته !! يعني إذا جعل لي النبوة، أو جعل لي الملك من بعده بايعته،
وأسلمت،
فجاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عصا، فقال: لو
سألتني هذه العصا ما أعطيتكها! ولئن ذهبت ليهلكنك الله، وما أظنك إلا
الرؤيا التي رأيتها يقول الراوي:
إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: رأيت في يدي سوارين من ذهب، فَأَهَمَّنِي في المنام أَمْرُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ في المنام أنِ انفخهما! فنفختهما، فطارا، فَأَوَّلْتُهُمَا: كَذَّابَيْنِ، وهما صاحبُ صنعاء
وصاحبُ اليمامَة .
فصاحب اليمامة هو مسيلمة فإنه
رجع، وجعل يَدَّعِي أنه نبي، وصَدَّقَهُ بعض الجهلة من بني حنيفة، ومن
ربيعة، وكانوا يتوافدون إليه.. يعلمون أنه كذاب، ولكن بعضهم يتعصب، حتى قال
بعضهم:
كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضَر! لأن ربيعة -يعني قبيلة ربيعة-
ربيعة بن نزار منهم مسيلمة ومضر بن نزار منهم قريش، منهم
النبي صلى الله عليه وسلم، وبينهم منافسة؛ بين ربيعة ومضر. فالحاصل في هذا
أنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا لَمْ يُبَايِعْهُ عرف بأنه سيكون له أمر،
وأنه سيدعي النبوة، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم بايعه خلق كثير،
حتى زادوا عن مائة ألف من ربيعة، ومن مضر، ومن غيرهم، واشتهر أمره.
وقبل
أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عمرو بن العاص أنه
وفد إليه -قبل أن يُسْلِمَ عمرو- فلما وفد إليه سأله: ماذا تحفظ مما
أنزل على صاحبكم؟ فقال: لقد أنزلت عليه سورة قصيرة عجيبة، وقرأ عليه سورة العصر،
ففكر مسيلمة قليلًا، ثم قال: لقد أنزل علي
مثلها !! ما هي؟ قال: يا وبر يا وبر!! إنما أنت أذنان وصدر!! وسائرك حقر حقر!! كيف
ترى يا عمرو ؟ فقال عمرو والله
إنك لتعلم أني أعلم أنك تَكْذِبُ !!! عَرَفَ أن هذا من الكذب، وأن هذا دليل على
أنه يَتَقَوَّلُ.
م
بعدما مات النبي صلى الله عليه وسلم، وكثر الذين بايعوه تنبأت امرأة من تميم،
يُقَال لها سجاح وبايعها خلق كثير، وغزت إلى مسيلمة ولما
وفدت إليه ومعها نحو أربعين ألف فارس خاف منها، ولكنه خدعها إلى أن دخلت
تحت ولايته، واستسلمت له، وبايعته، وتزوجها، وانضم جيشها إلى جيشه، ولما
اسْتُخْلِفَ أبو بكر رضي الله عنه أرسل جيشًا من
المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي
الله عنه، فقاتلوا قوم مسيلمة وقتل مسيلمة في أثناء المعركة، وبعد ما قتل مسيلمة تفرق
من كان معه، ورجعوا إلى الإسلام. وأما سجاح فإنها أيضًا ادعت أنها نبية، وكانت
أيضًا تدعي أنه ينزل عليها قرآن، وهو من جنس أقوال الكهنة، وذُكِرَ أنها
أسلمت، ويقول فيها بعضهم:
أما سجاح يـا جهـول فأسلـمت | وربـك تـواب علـى كل تـائب |
وأما
صاحب صنعاء فإنه رجل حبشي أو نحوه، يقال له الأسود
العنسي من قبيلة هناك، ادعى النبوة، ولما ادعى النبوة وكان في نجران استولى
على نجران ثم سار وصار يمشي في اليمن بلدةً
بلدة، إلى أن استولى على تلك البلاد كلها، وبايعوه إلى أن استقر في صنعاء وكان
هناك دعاة من الصحابة، فهربوا، لما أنه استفحل أمره هربوا إلى حضرموت كمعاذ وأبي
موسى وعلي وعَمَّار ونحوهم، ثم إن هناك اثنين من
المسلمين، عرفا أنه كذاب، وكانت امرأته أيضًا تعرف أنه كذاب، فوعدتهما على أن
ينقبا الباب، ويدخلا خلف الجدار، ففعلا ذلك، فقتلاه قبل موت النبي صلى
الله عليه وسلم بأيام قليلة.
وبكل حال هؤلاء
تنبئوا بعده، بعد ما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله
تعالى كَبَتَهُمْ وأَذَلَّهُمْ، ولم يبقَ لهم شوكة، ولم يبق لهم أتباع؛
وذلك لأنه ظهر كذبهم. فهكذا يظهر كَذِبُ من ادعى النبوة وليس بصادق، قد
أخبر أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيأتي بعده كذابون، يقول:
لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي!
وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي فيذكر بعض المشايخ أنه قد ظهر منهم سبعة
وعشرون، ويمكن أن الثامن والعشرين هو غلام أحمد القادياني الذي
ظهر في الهند وصدقه خلق كثير، لا يزالون يعرفون
بالقاديانية، فيكون قد ظهر هؤلاء الخلق الذين يَدَّعُون أنهم أنبياء، ولكن
الله تعالى كَبَتَهُمْ، وأظهر دينه الذي أرسل به نبيه، وأنزل عليه قوله
تعالى:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ .
سأله
السؤال الرابع عن أتباعه: مَنْ أتباعه؟ فقال: ضعفاؤهم.. هل ضعفاء الناس يتبعونه،
أم أشرافهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل هم أتباع الرسل. وهذه سنة الله أن
الضعفاء هم الذين تلين قلوبهم، وتطمئن إلى الحق وتتبعه ، وتصدق مَنْ جاء
به، ذكر الله تعالى ذلك في الرسل، فهؤلاء قوم نوح يقولون:
أَنُؤْمِنُ لَكَ
وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ فأخبر بأن أتباعه هم الأرذلون، أراذل الناس، وصغارهم، وفقراؤهم، ونحو ذلك..
وفي سورة هود قال قوم نوح:
وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا
الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا يعني: ضعفاؤنا، وفقراؤنا، والصغيرون فينا، لم يتبعكَ الأشراف، ولم يتبعك الرؤساء
والقادة والسادة، فأجابهم بقوله:
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ ثُمَّ قَالَ:
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ
اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أطردهم لأنهم اتبعوني على الحق ولو كانوا ما كانوا؟!
وكذلك قوم صالح في
سورة الأعراف، في قصة صالح قال الله تعالى:
قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ
آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ هكذا آمن أولئك الذين هم الضعفاء
لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ
بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ
كَافِرُونَ فَدَلَّ ذلك على أَنَّ الذين استُضْعِفُوا هم الذين آمنوا بصالح ولم
يؤمن به الأكابر والذين استكبروا.. لماذا؟! لأن الضعفاء أقرب إلى أن تَرِقَّ
قلوبهم، أمَّا الأشراف فَيُخَيَّلُ إليهم أنهم إذا آمنوا، وقبلوا الإسلام
حِيلَ بينهم وبين رئاساتهم، وبين مناصبهم الرفيعة، وبين قياداتهم؛ لأنهم
لهم قادة، ولهم أتباع، وفيهم رئاسة، وفيهم شرف، وفيهم رفعة، فيقولون:
إذا كنا أتباعًا ذهب
أتباعنا، صرنا أتباعًا بعد أن كنا متبوعين، وصرنا تبعًا لغيرنا بعد أن كان الناس
يتبعوننا، فصرنا مرءوسين، بعد أن كنا رؤساء فلا يمكن أن نَتَصَغَّر وأن نتواضع
لغيرنا! وأن نترك شرفنا، وأن نترك منزلتنا!! مع أنهم يعرفون الحق!
قال الله تعالى:
فَإِنَّهُمْ لَا
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ .
ذكر ابن
كثير في تفسير قول الله تعالى في سورة الإسراء:
نحن أعلم بما يستمعون به
إذ يستمعون إليك ذكر أن أفرادًا من أكابر قريش كانوا يأتون إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم
وهو يصلي في الليل، ويرفع صوته بالقرآن، فيستمعون له.. هذا يَسْتَمِعُ من
جهة، وهذا يستمع من جهة! ثلاثة أيام وهم يستمعون، وبعضهم لا يدري بالآخر!
ولكن يجتمعون في الطريق إذا رجعوا، وبعد ثلاثة أيام اجتمع اثنان منهم
وسألا، وقالا: ما تقول فيما سمعت من محمد ؟! فكأنه أعجب به، وقال: إني قد سمعت قولًا لا يشبه قول السحرة،
ولا الكهنة، ولا الشعراء، ثم إنه ذهب إلى الثالث، وهو أبو جهل وسأله: ماذا تقول فيما سمعت من محمد ؟ .
فتكبر أبو
جهل وقال: إنا تفاخرنا نحن وبنو هاشم: أطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وعملوا وعملنا،
حتى إذا كنا وإياهم كَفَرَسَيْ رهان، يعني: متساويين.. قالوا: منا نبي..!
من أين أن نحصل على هذا؟!! لا والله لا نصدقه أبدا!! فتركه. فهذا أبو
جهل خاف على شرفه، يقول: إذا اتبعناهم صرنا تابعين، إذا صدقناه صرنا تابعين، بعد أن كان
لنا مكانة، وكان لنا رفعة، وسَقَطَتْ منزلتنا، فهذا هو السبب الذي جعلهم
لا يصدقونه.
إنما صَدَّقَهُ ضعفاء
الناس، صَدَّقَهُ الموالي مثل عمار بن ياسر وأبوه ياسر وأمه وتُسَمَّى سمية وهي
التي قتلت على الإسلام، وكذلك صهيب وكان قينا، يعني: حدادًا، أو
صائغًا وَخَبَّاب وكذلك بلال ونحوهم من الموالي، صدقوه، ومع ذلك
قد صَدَّقَهُ بعض أشرافهم، ولكن احتقرهم أبو سفيان قد صدقه أبو بكر وعمر وكان عمر من أشرفهم وأشجعهم وعثمان وعلي وسعد وطلحة وعبد
الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وكثير من أشراف قريش، ولكن رأى أبو
سفيان أنهم ليسوا من الأشراف الذين لهم مكانة، وصَدَّقُوه؛ لأنه اتضح لهم الحق.
سأله
سؤالًا خامسًا: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقال: بل يزيدون، عند ذلك أخبره هرقل بأن
هذه سُنَّةُ الله، وأن الحق لا يزال يعلو ، ولا يزال يرتفع، إذا عرفه أهل
العقول وأهل الفهم، فلا بد أنهم يزيدون، ويدخلون في دين الله تعالى.
سأله سؤالًا سادسًا
فقال: هل يرتد أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يَدْخُلَهُ؟ فقال: لا، فقال: كذلك
الإيمان إذا باشرت بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد، وهذه حكمةٌ أنطق الله
تعالى بها هذا الملك الذي هو هرقل وتَدُلُّ على معرفته بالإيمان،
ومعرفته بالرسل، ومعرفته بدعوتهم، وأن دعوتهم دعوة إلى الإيمان بالله،
ودعوة إلى ما ينفع الأمة في دينها وفي دنياها، لا شك أن ذلك حقيقة، وأن
الإيمان إذا باشر القلوب، إذا وقر في القلب، وثبت ورسخ فيه لا يسخطه
أحد؛ ولأجل ذلك صبر عليه مَنْ صبر مع ما يُلَاقُون، فنعرف أن أتباع
الأنبياء السابقين صبروا على العذاب، وصبروا على الأذى من قومهم، ولم يرتدوا،
وأتباع نبينا صلى الله عليه وسلم كذلك، لَمَّا أن الإيمان باشرت بشاشته
قلوبهم صبروا، فصبروا على الأذى.
ومنهم آل ياسر، كان
النبي صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ عليهم وهم يُعَذَّبُون، ويقول: صبرًا آل ياسر،
فإن موعدكم الجنة فصبروا حتى قُتِلَتْ أمه، وقُتِلَ
أبوه تحت العذاب.. صبرًا آل ياسر! كذلك أيضًا اشتهر أن بلالًا كان مملوكًا لِأُمَيَّةَ بن خَلَف فكان
يُعَذِّبُهُ.. يُلْقِيه في الشمس، ويجعل الصخرة الكبيرة الحامية على صدره، ويقول:
لا أخليك حتى تكفر بمحمد ! فيقول: أَحَدٌ أَحَدٌ، وكذلك أيضًا
وصل الأذى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووصل أيضًا إلى كثير من
الصحابة أُوذُوا في ذات الله تعالى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حماه
الله تعالى بِعَمِّهِ أبي طالب أبو بكر حماه قومه الذين هم بنو تَيْمٍ.
وأما عمر فكان
شُجَاعًا قويًّا، لا يقدرون على أن يُعَذِّبُوه؛ لصرامته وقُوَّتِهِ، ولكن
رأى أيضًا أن يناله مثل ما نال غيره، فأرادوا أن يُعَذِّبُوه، ولكن انتقم
منهم. كذلك لما أسلم أبو ذر بمكة وأظهر إسلامه، أخذوا يضربونه حتى
خَلَّصَهُ بعضهم. فالحاصل أنهم أن الذين أسلموا معه بمكة هم ضعفاء الناس، حتى نصره الله
تعالى وأسلم معه الأنصار الذين بالمدينة .
ثم إن الذين أسلموا بمكة تركوا
أموالهم، وبلادهم، وديارهم، وهاجروا إلى الله تعالى، فعَوَّضَهُم الله
تعالى خيرًا مما تركوه لله سبحانه وتعالى، ومع ما نالهم من العذاب، ومن
الشدة، ومن الأذى، فإنهم صبروا لم يرتد أحد منهم سَخْطَةً لدينه.
اسْتُثْنِيَ من ذلك عبد
الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخو عثمان لأمه، فإنه كأنه خُيِّلَ إليه أنه
مضطهد، أو نحو ذلك، فارْتَدَّ عن الإسلام، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم لما
فتحت مكة أن يقتله، ولكن أجاره أخوه عثمان فقبل
ذلك منه، أما غيره فلم يكن أحد منهم ذُكِرَ أنه ارتد عن دينه سَخْطَةً لدينه.
سأله بعد ذلك سؤالًا
سابعًا فقال: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، فَدَلَّ ذلك على أن الأنبياء قد شُرِعَ لهم
القتال.
سأله سؤالًا ثامنًا:
كيف كانت الحرب بينكم؟ فقال: سِجَالٌ.. ينال مِنَّا، وننال منه.. نال منهم في غزوة بدر وذلك
نَصْرٌ من الله، ونالوا منه في أحد وذلك تمحيص لهم، فيقول هرقل كذلك
الأنبياء يُنَالُ منهم، ثم تكون لهم العاقبة، العاقبة للتقوى، العاقبة والنصر والتمكين
لأهل التقوى.
سأله
بعد ذلك: هل يغدر؟ فقال: لا، ولكن نحن منه في مدة، لا ندري ما هو فاعل فيها؟!
وذلك في المدة التي تعاهدوا فيها في عهد الحديبية يقول أبو سفيان لم أتمكن من إدخال كلمة إلا هذه..!
يعني كأنه يقول: تمكنت وقلت هذا، مع أن هذا لا يفيده شيئًا! وهو صحيح...
يقول: إننا في هذه المدة، ولا ندري ماذا يفعل في بقية المدة؟ ولكن أقره على
أنه لا يغدر؛ وذلك لأن الغدر خيانة.
وقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم يُحَذِّرُ من الغدر الذي هو الخيانة، ويذكر أنه صفة للمنافقين،
يقول:
أَرْبَعٌ من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَنْ كانت فيه
خَصْلَةٌ منهن
كان فيه خَصْلَةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن
خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر يعني: إذا كان له عهد وذمة فإنه يغدر، ويخون
في العهد، والله تعالى قد أمر بالوفاء بالعهود ، فقال تعالى:
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ
إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا يعني: فيما بينكم، وأَكَّدَ عهد الله في قوله تعالى:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ يعني: أنكم إذا قلتم: أعاهدك بالله، أو علي عهد الله ألا أخون، فإنك يَلْزَمُكَ
أن توفي بهذا العهد، وأن تفي به ولا تخون، وكذلك نزل قول الله تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ .
هذه الآيات وما
أشبهها تؤكد الوفاء بالعهد، فكان صلى الله عليه وسلم هو الذي، أو اشتهر بالوفاء بالعهد..
ذلك العهد الذي تعاهدوا على وضع الحرب بينه وبين قريش عشر سنين، وكان
الذين نقضوا العهد هم قريش ومَنْ دخل في عهدهم؛ وذلك لأنه لما تم هذا العهد
دخلت خُزَاعَةُ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد
قريش، وكان بين بكر وبين خزاعة في الجاهلية قتال، وكانت خزاعة عيبة
نُصْحٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم -مؤمنهم وكافرهم- ثم في سنة ثمان
بعد العهد بسنتين حصل أنهم اجتمعوا على ماء خزاعة، وبنو بكر، فقال بنو
بكر: لماذا لا تأخذون بالثأر؟ فقد تمكنتم من خزاعة، فغدروا وجعلوا يقتلون من
خزاعة، واستمدوا قريشًا، فأمدتهم برجال، وأمدتهم بأسلحة، فكان ذلك خيانة من
قريش وبني بكر.
ولما وقعت هذه الخيانة
منهم أرسلت خزاعة وافدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُه بهذه
الخيانة، ويقال له نصر بن سالم، أو عمرو بن سالم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم،
وأنشده ذلك الرجز الذي يقول فيه :
يـا ربِّ إني ناشد محمدا
حـلف أبينا وأبيه
الأتلـدا
إن قـريشًا أخلفوك
الموعدا
ونــقضوا ميثاقك
المؤكدا
هــم بيتونا بالوتير
هجدا
الوتير: هو الماء
الذي قاتلوهم فيه.
وقـتلونا ركعًا وسجدا
فانصر فداك الله
نصرًا أَيِّدا
وادعُ عباد الله
يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد
تجردا
.. إلى آخرها، فعند
ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم .
فعند ذلك لما علم أبو
سفيان بأنه حصل منهم النقض جاء إلى المدينة يقول: جِئْتُ لأجدد العهد، وأزيد
في المدة، ولما جاء إلى المدينة لم يستقبل منه أحد، فجاء إلى أبي
بكر وقال: اشفع لي إلى محمد لعله يُجَدِّدُ العهد، فلم
يَقْبَلْ، وجاء إلى عمر وقال: اشفع لي إلى محمد فقال عمر لو
لم أَجِدْ إلا الذَّرَّ لَقَاتَلْتُكُمْ به!! فجاء إلى عَلِيٍّ فقال عَلِيٌّ أنت سيد من أشراف قريش، لك أن تجير
في الناس، فقال: وهل ذلك يغني؟ قال: افعل.. فوقف في الناس أبو سفيان وقال: أيها الناس، إنا قد أجرنا
العرب، فلا أحد يُقَاتِلُنَا، ولا أحد يَقْتَتِلُ، رجع إلى قريش وأخبرهم
بما قال، فقالوا: مكروا بك، ماذا تنفع إجارتك وأنت من الذين ساعدوا على
الخيانة؟! والحاصل أن هذا كان سببًا في فتح مكة وفي دخول أهل مكة في الإسلام،
فَدَلَّ على أن هذا وصفٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه أَوْفَى بالعهد، ولم
يَخُنْ، ولم يَغْدِرْ.
ثم
السؤال العاشر والأخير، سأله: ماذا يأمركم؟ بماذا يأمركم هذا النبي؟ وبماذا
يدعو؟ فاعترف بهذه الأوامر، أنه أولًا يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به
شيئًا، صدقه هرقل وقال: هذه دعوة الرسل التي
يَدْعُون إليها، يبدءون دعوتهم بالأمر بعبادة الله ، بقولهم:
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والصلة... هذه أيضًا أوامر يدعو إليها كل عقل، فالصلاة
-وإن كانوا لا يعرفونها- لكنها عبادة، وكذلك أيضًا الصدقة، التي هي:
الزكاة، والترغيب في الصدقة التي هي من أفضل الْقُرُبات، والتي فيها المواساة،
يأمرهم بها، كذلك الصلة التي هي صلة الأقارب، وصلة الأرحام، اعترف بأن هذه مما يدعو إليها
النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سأله هذه الأسئلة كأن هرقل عند ذلك صَدَّقَهُ، وقال: هذه صفات
نَبِيٍّ، وإن كان ما ذكرته حقًّا فسيملك موضعَ قَدَمَيَّ، يعني: في إيليا في بيت
المقدس وما حوله سيملك هذا المكان إذا كنت صادقًا.
يقول: ثم دعا بكتاب
النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسله إلى هرقل فلما وصل إليه اهْتَمَّ به، قرأ
هذا الكتاب بواسطة المترجم، وإذا فيه:
مِنْ محمد رسول
الله إلى هرقل عظيم الروم -يعني: أنه كان كبيرهم-
سلام على من اتبع الهدى، لم يُسَلِّمْ عليه؛ لأنه في ذلك الوقت مشركٌ
ونصراني، إنما أتى بالآية في سورة طه:
وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ
الْهُدَى إن كنت ممن اتبع الهدى فإننا نُشْرِكُكَ في السلام، وإلا فالسلام على مَنِ
اتَّبَع الهدى.
أما بعد، فإني أدعوك
بدعاية الإسلام، يعني: أدعوك بالدعوة التي هي الإسلام الذي هو الإذعان، والذي هو
الانقياد لله تعالى، فإن الإسلام مُشْتَقٌّ من الإذعان ، يقال: أسلم البعير،
يعني: انقاد..استسلم، ويقال: أسلم العاصي، يعني استسلم وانقاد لمن كان يطالبه
أو يطلبه، وسُمِّيَ المسلمون بهذا الاسم؛ لأنهم انقادوا لأمر الله،
فهو يقول: اسْلَمْ تَسْلَمْ.. اسلم: يعني ادخل في هذا الإسلام.. تَسْلَمْ:
أي: تَسْلَمُ من الْخَسَار، وتسلم من النار، وتسلم من فَقْدِ ملكك،
وفَقْدِ ما أنت فيه، وفَقْدِ رئاستك، لو أسلم لَبَقِيَتْ له رئاسته، ولبقي له
شَرَفُهُ، أَسْلِمْ يُؤْتِكَ الله أجرك مرتين.
ورد ذلك في حديث أن
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:
ثلاثة يُؤْتَوْنَ أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بكتابه
وآمن بي يعني: آمن بكتابهم، يعني: ما فيه من التفاصيل
كالأناجيل، وآمن بي، فله أجران: أجر إيمانه بكتابه، وما
فيه، وأجر إيمانه بي، وإن كانت كتبهم قد نُسِخَتْ بهذا الكتاب الْمُنَزَّلِ
على نبينا صلى الله عليه وسلم.
ومملوك أدى حق الله تعالى، وحق مواليه فله أجران، ورجل كان له
جارية فَأَدَّبَهَا، ثم اعتقها وتزوجها، فله أجران فالحاصل: أنه لما قال: يؤتك الله أجرك مرتين،
يعني: على إيمانك بكتابك ومعرفتك به، وإيمانك بي... فإن
توليت فإن عليك إثم الإريسيين.. إذا أبيت من الإسلام فإن عليك إثمهم..
الأريسيون هم: الْحُرَّاث، والعوامُّ الذين في بلاده، وكانت تلك البلاد مشهورة
بالمزارعين الذين يزرعون الحبوب، وهم عَوَامُّ وجهلة، وهم يتبعونه لكونه
رئيسًا، ولكونه مُطَاعًا فيهم، وقد يدخل فيه أيضًا جميع مَنْ كان على دينه؛
النصرانية، يعني: عليك إثم هؤلاء النصارى الذين كنت أنت رئيسًا
فيهم، ومطاعًا فيهم إذا توليت.
ثم ذكر له هذه الآية
في سورة آل عمران:
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا
نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وذلك لأنهم أهل كتاب، ولأجل ذلك عَرَفَ من كتبهم صفة النبي صلى الله عليه وسلم،
واعترف بأنه سيملك ما تحت قدميه، ويقول: لو خلصت إليه لَغَسَلْتُ قدميه،
لو تخلصت إلى محمد لأطعته.. حتى ولو أخدمه بأن أغسل
قدميه، فَلَمَّا كان مُطَاعًا كان إثم مَنِ اتبعه على الضلال يحمله عليه مثله. قال
الله تعالى:
وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ يعني: أوزارًا مثل أوزار الذين اتبعوهم، ى:
[